على مدى ثلاثين عاماً، تقريباً، أعقبت الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، لم تكن القروض البنكية موجودةً بالمطلق، والسبب في ذلك يرجع إلى عدم وجود بنوك وطنية أو عربية في الأراضي الفلسطينية، على قاعدة عدم سماح سلطات الاحتلال لهذه البنوك بالعمل، حتى تلك التي كانت موجودةً في الضفة الغربية قبل العام 67. إحدى فوائد البنوك هي المساهمة في إحداث تنمية اقتصادية حقيقية من خلال مجمل التسهيلات التي تقدمها للقطاع الاقتصادي، ولكن في الحالة الفلسطينية، وخاصةً بعد قيام السلطة الوطنية وسماحها لعدد من البنوك العربية بإعادة افتتاح فروعها المغلقة، ولتلك التي لم تكن موجودةً بإنشاء فروع في فلسطين، إضافةً إلى ترخيص عدد من البنوك الوطنية.. لم تعد المعادلة كما كانت.. بل إن الضرر الواقع في بعض الأحيان كان أكثر من الفائدة المرجوة. الأسباب كثيرة، فسياسة الإقراض الفردي خلّفت وراءها مصائب كبيرةً ومشاكل اجتماعية وخاصة أسرية، واقتصادية أكبر بكثير من المتوقع. في بداية التسعينيات - وخاصة مع السماح للبنوك بالعمل في فلسطين - كانت هناك سياسة إقراض يمكن القول إنها كانت مشروطةً ومقيّدة جيّداً، وربما كان ذلك يرجع إلى أن المخاطرة في حينه كانت عاليةً.. وكانت عملية الإقراض الفردي لا تتم إلاّ لموظف على رأس عمله وأمضى فترة زمنية معقولة في الخدمة.. إضافة إلى اشتراط أن يكفله موظفان على الأقل.. كما أن المبالغ كانت محدودة، ولكن فجأة دون مقدمات بدأنا نلاحظ غرقاً جماعياً في هذه القروض ليس فقط من المقترضين بل من الكفلاء أيضاً.. فكثير من الكفلاء وجدوا أنفسهم في مشاكل لا يمكن تخيّلها.. فمنهم من يدفع جزءاً كبيراً من رواتبهم لتغطية قروض لأفراد تعثّروا في سدادها أو "هربوا" من البلد أو هاجروا أو لم يسدّدوها على قاعدة "لم يُشنق مديون". هذه القروض شملت فئات المجتمع كلها بدءاً من الموظفين الكبار وحتى أصغر موظف لا يتجاوز راتبه (في حينه) ألف شيكل.. وعلى سبيل المثال، فإن نسبة تزيد على 30% (وفق مسؤول مطّلع) من العاملين في أجهزة الأمن بمختلف أذرعها تورّطت في القروض، حيث كانت التسهيلات التي تقدمها تلك البنوك للإقراض هي السبب الأساسي، فكفيل واحد يكفي، بصرف النظر عن راتبه، والمبلغ الذي يتم إقراضه ربما كان 10 أو 20 ضعف الراتب.. ما اضطر أحد الأجهزة الأمنية بعدما تراكمت المشاكل الاجتماعية وأضرّت بالعلاقات بين أفراد الجهاز إلى أن يطلب من البنوك - في رسالة رسمية - عدم إقراض أي من عناصر الجهاز إلاّ بعد موافقته.. حتى يتم ضبط الأمور قدر الإمكان. الروايات التي يتحدث بعض الكفلاء عنها تصل في بعض الأحيان إلى النكبة.. كثير من الكفلاء اليوم يدفعون مجبرين تحت طائلة القانون لمجرد أنهم وقعوا في دائرة الخجل أو الصداقة أو القرابة.. لزملاء أو أفراد لا توجد لديهم ذرّة ضمير.. فأضاعوا أنفسهم وضيّعوا الغير. عائلات بأكملها تدفع اليوم ثمن أخطاء ليس لها ذنب فيها إلاّ أن المعيل تورّط في الكفالة.. حالات طلاق.. حالات سجن.. حالات اعتداء.. تهديد بالقتل.. دون أن يُحرّك المجتمع ساكناً في هذا المجال. الأخطر من ذلك أن 90% من هذه القروض لا تذهب من أجل التنمية أو زيادة الدخل من خلال مشاريع إنتاجية مثلاً، ولكن تحت مفهوم الاقتصاد الاستهلاكي.. شراء الأثاث بكافة أنواعه، وخاصة المستورد.. من أجل الترف الاجتماعي الكاذب.. من أجل الصرف في قضايا هامشية.. من أجل سيارة ثانية للعائلة غير القادرة في الأساس على توفير المتطلّبات الأساسية للحياة.. أو من أجل تغيير السيارة بأحدث.. إذن هو غرق للمقترض، وغرق للكفيل، وغرق لأسر بأكملها.. وفي النهاية المجتمع هو الذي يعاني.. إن غرق المجتمع الفلسطيني بهذه القروض بكافة أشكالها ومسمّياتها، أيضاً، ضرب مفهوم الصمود والنضال.. لأن الغارق في ديونه ومشاكله الاقتصادية لن يكون قادراً على العطاء في مجال آخر.. ما يفتح الأبواب للفساد والإفساد. بمعنى آخر، نحن بحاجة إلى رقابة حقيقية على كيفية الإقراض وأسباب الاقتراض.. إن لم تكن تساهم حقيقة في التنمية والإنتاج.. فيجب الحدّ منها ولو كان ذلك بشكل قانوني.. لأن ذلك هو ضمانة مستقبلية لنا جميعاً.. قبل أن تتفشّى فينا أمراض جراثيمها تأتي تحت مسمّيات القروض