في ساعات الظهر، كان الدكتور متري الراهب، يسأل عن أية لغة هي الأفضل في مخاطبة الجمهور الذي سيقدم له في المساء كتابه (بيت لحم: تراث عالمي) في المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي-تحت رعاية اليونسكو، ويقصد الراهب، وهو قس الطائفة اللوثرية في بيت لحم الذي سيحتفل قريبا بمرور 25 عاما على دخوله السلك الكهنوتي، ما إذا كان الأفضل مخاطبة الجمهور باللغة الفصحى أم بالعامية، وكان رأي، وهو ما أيدته زوجته أيضا السيدة نجوى خوري، التحدث باللغة الوسطى، التي تقف على حدود الفصحى والعامية.
حيرة الراهب، مردها احترامه الكبير لجمهوره، وهو ما ورثه من تربية على ثقافة منظمة تهتم بالتفاصيل، وفي الوقت ذاته منفتحة.
تسلينا مع أصدقاء في بهو الفندق. وقع الراهب كتابه عن رائدة التصوير الفوتوغرافي في فلسطين (كريمة بعود)، وتوليت انا التصوير، ووقعت روايتي: المسكوبية (رام الله-2010) وقبلة بيت لحم الأخيرة (بيروت-2012) وتولى هو التصوير.
الراهب مفتون بكريمة عبود، وقال بانه بقي يحلم بها أكثر من عامين خلال اعداد الكتاب (بالتعاون مع أحمد مروات وعصام نصار) وفلم عنها (إخراج محاسن ناصر الدين).
زوجة الراهب كررت مازحة، ما قالته سابقا، كيف انها اعتبرت عبود "ضرتها" لانشغال الراهب بالرائدة المميزة، التي تستحق الكثير.
الكاتب الكبير يحيى يخلف، رئيس الوفد الثقافي الفلسطيني الذي حط رحاله في البحرين، أمضى ساعات ما قبل الظهر في الفندق، متعبا، بعد ان سهر إلى ساعة متأخرة في بيت السفير الفلسطيني في البحرين طه عبد القادر، وهو اسم يكاد يكون مشفرا، رغم انه الاسم الحقيقي لمن يُعرف باسم (خالد عارف). السفير الذي انتقل من العمل الفدائي سابقا إلى الدبلوماسية، دعا على العشاء، شخصيات متنوعة بشكل كبير: وزراء، وسفراء، ورجال أعمال، ومثقفين، وشخصيات من الجالية الفلسطينية في البحرين. انتهى العشاء بعرض سياسي، قدمه الدكتور محمود الهباش، وزير الأوقاف الفلسطيني.
اعد صاحب (نجران تحت الصفر)، المداخلة التي سيقدمها، وهو الذي جاء حاملا ايضا مشروعه الثقافي الوليد (أوراق فلسطينية)، وهي مجلة فكرية فصلية، يرأس تحريرها، تأتي بعد غياب فلسطيني عن مثل هذا النوع من المجلات. يدرك يخلف صعوبة المشروع الجديد، ولكنه اكد على استمراره، وتحدث بشغف عن ارتياحه لحجم المشتركين في المجلة، والحفاظ على مستواها، وتقديم وجود جديدة في المشهدين الفلسطيني والعربي. وفتح المجال أمام الكتاب في فلسطين والعالم العربي على مختلف توجهاتهم وآرائهم، باعتبار المجلة الجديدة تحمل مشروعا تنويريا يؤمن بالاختلاف، وتقديم الجديد.
عندما وصلنا المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي، قادنا المدير العام المساعد خليفة بن أحمد أل خليفة، في جولة على المركز الذي يحتفل بمرور عام على تأسيسه، ولا يخفى الجهد الذي بُذل في تصميم القاعات والغرف، والمبنى بشكل عام، ليتقاطع مع مفاهيم ثقافية.
خلال اليومين السابقين، كان المسؤولون في السفارة الفلسطينية، قد تحدثوا أكثر من مرة على ان المهم ليس عدد الحضور، وانما نوع هذا الحضور، في خطوة بدت استباقية في حالة لم يكن الحضور كبيرا، ولكن خلف هذه الخطوة كانت تجري خطوات حثيثة في توزيع الدعوات، وقد بذل الملحق الاعلامي نظمي العرقان دوار مهما في ذلك.
ولكن الامر بدا مختلفا، مع تدفق الحضور على القاعة، التي لم تتسع مقاعدها، ففضل البعض الوقوف، وبالإضافة إلى حشد من السفراء والقناصل، الذي يُظهر الجهد الذي بذلته سفارة فلسطين، حضر مثقفون وصحافيون ومفكرون كالصحافي المخضرم جهاد الخازن، والمفكر النقدي الطاهر لبيب، اضافة إلى مندوبين لمحطات تلفزة وصحف ووسائل إعلام أخرى.
افتتح الشيخ خليفة بن أحمد أل خليفة الأمسية، بكلمة ترحيبية موجزة، عرف فيها عن مركزه ودوره، منبها لما يجري من تدمير لمعالم اثرية جراء الأوضاع في العالم العربي، واعطى مثلا عن معالم سورية.
واخيرا..هذا هو مساء بيت لحم في المنامة. قلت بحماسة، بعد ساعات طويلة من السفر واجتياز الحواجز، منذ الخروج من بيت لحم توأم القدس، التي يحاصرها المحتلون، ولكنها تغلبت على ألامها لتكون مع الحضور من خلال الكتب، التي تحلق ولا تستطيع قوات الاحتلال اعتقالها.
قائمة الشكر التي توجب علي تلاوتها طويلة، ورغم تشديد نظمي العرقان، ومتابعة السفير لهذه المسألة، الا انني فضلت توجيه تحية خاصة للشيخة ميّ بنت محمد أل خليفة، وزيرة الثقافة البحرينية المثقفة والأنيقة، التي بدت لي خلال جولات اليومين الماضيين، نموذجا لوزيرة ثقافة مثقفة نشطة. مساء اليوم السابق، بدت اناقة كلماتها التي تختارها بدقة محسوبة بعيدا عن رغي الوزراء والخطباء المعتاد، في افتتاح مؤتمر (استكشاف افاق للسياحة الثقافية)، لا أعرف مدى جدية المؤتمر وما طرحه، ولكنني أدركت مدى جدية الوزيرة. التي أعقب كلمتها حفل للمؤلفة الموسيقية ومغنية الاوبرا هبة قواس. وقبل ظهر يوم الأمسية زرنا بيوت الشيخ ابراهيم الثقافية، التي تعتبر مشروع الشيخة مي الثقافي بعيدا عن الوزارة، ودور هذه المراكز-الظاهرة يستحق وقفة خاصة.
قلت للوزيرة المبتسمة، بانني سأقترح عندما تتحرر فلسطين، ان تتوحد مع البحرين، وسأصوت لان تكون وزيرة ثقافتا.
صاحب (ماء السماء)، أوجز المشهد الثقافي والحضاري في فلسطين، وتتبع البحث الغربي، الذي لم يخلو من طموحات استعمارية في الاثار الفلسطينية، وقدم توصيات عديدة، هناك مِن الحضور مَن رغب بقراءة المداخلة كاملة التي توفرت مطبوعة.
الراهب، الذي احتار باية "لغة" عربية يتحدث، تحدث بالإنجليزية، ليفهم عليه حضور الفعالية، عن كتابه وأهميته، بعد إدراج كنيسة المهد ومسار الحجاج، على قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو.
كان مساءا بيتلحميا في المنامة، ليس فقط لأنه خصص لتوأم القدس المحاصرة، ولكن أيضا لان الاجواء في البحرين، كانت ندية، على عكس هذا الوقت من العام، وتذكر نسمات الهواء العابقة برائحة البحر، بتلك التي طالما داعبت اجساد سكان بيت لحم الصغيرة، والفريدة، فتاة التلال الفلسطينية الوسطى، واسطة العقد بين المثلث المقدس: القدس-بيت لحم-الخليل.
بيت لحم أرسلت رسالة سلام إلى العالم، ولاسمها مفعول السحر لدى الجمهور غير المتوقع حضور الفعاليات الثقافية، ولكنها لم تتمكن من صنع سلامها الخاص.